
عالم الليل الأبيض
ليلٌ بلا ظلال حيث يظهر الخفيّ بلا قناع؛ من يصبر على الضوء الناعم يرى الحقيقة بلا زينة.
عالم الليل الأبيض — حيث يظهر الخفيّ بلا قناع
ليلٌ كالمرآة، لا يرحم الزينة ولا يتواطأ مع الظلال. إن جرّبت أن تخبّئ نيتك، فضحك البياض… وإن صدقت، فتح لك طريقًا يمرّ عبر صدرك.
لماذا هذا العالم مختلف؟
في عالم الليل الأبيض لا يختبئ شيء طويلًا. البياض ليس لونًا هنا، بل مناخ أخلاقي ومعياري: نور بارد ودائم يعرّي النوايا قبل الكلمات، ويجعل كل حركة لها صدى مرئي. من تعوّد المواربة سيشعر بالاختناق؛ ومن تمرّن على الصدق سيكتشف خفةً في الخطو لم يعرفها من قبل.
تبدو المدينة/العاصمة ساحة السكينة كقِبّة مفتوحة من ضوء حليبيّ. الأبنية بلا ظلال حادة، والأزقة كأنها سطور غير مكتملة تنتظر اعترافًا ليتمّ معناها. يهمس الناس قليلًا ويتوقفون طويلًا؛ فهنا تُوزن العبارات بقدر الصمت الذي يليها. إن طال صمتك بعد عبارةٍ صادقة، وزنت كثيرًا.
قوانين اللعب في الليل الأبيض
الاعتراف قبل المجاز: لا مكان للتشبيه قبل أن تقول ما عندك صراحة.
الصمت ميزان: يُقاس صدقك بطول السكون الذي تستطيبه بعد الكلام.
بطاقة البياض: لكل زائر بطاقة شفافة تتعكّر عند أول التفافٍ على الحقيقة.
النسيان عقوبة: من يشيح بوجهه عن البياض، يخسر ساعة كاملة من ذاكرته؛ تفصيلًا تفصيلًا.
لا ظلال للدموع: لذلك يقال إن غول الندى لا يقوى على الدخول؛ فالدموع هنا تتبخر قبل أن تلمع، ويبقى جوهر النية عاريًا.
مَشاهد لا تُنسى
ممرّات الصمت: أروقة طويلة بلا نهاية واضحة، تتّسع وتنكمش بنبض أنفاسك. من يمرّ فيها وهو متردّد يسمع وقع أقدامه يتشظّى؛ أمّا من دخلها بعد اعتراف، فيمشي كأنه فوق قطنٍ لا يُصدر صوتًا.
رواق الاعتراف: درج حلزوني يتوهّج كلما قيلت حقيقة صغيرة. ليست محكمة، لكن من يصعد إلى قمّته يعود بوجهٍ أقلّ تجهمًا وبقلبٍ أوسع.
ساحة السكينة: قلب العالم النابض. يجلس فيها عازفو ترنيمة اللّين قرب نافورة بيضاء لا تُرى مياهها إلا بعينٍ أغمضتها الندامة مرّة.
شخصيات محوريّة
1) نذير البياض
رجل بملابس بسيطة، لا تُرى ملامحه كاملة مهما اقتربت. مهمته أن يسألك السؤال الذي تتهرّب منه. صوته ليس صارخًا؛ هو خيطٌ باردٌ من الصبر يمتدّ حتى تقول ما تخفيه. يقال إنه كان في زمنٍ آخر من جامعي الشظايا في عالمٍ بعيد، لكنه أقام هنا لأن البياض لا يحتاج إلى جمع شيء—هو يجمعك أنت.
2) حافظة الظلال
شخصية تُشبه ظلًّا قديمًا صار لحمًا. لا تدخل الأماكن، بل تقف عند العتبات، تلتقط ما يتساقط من ظلال القادمين: سوء نية، حسد، رغبة في التزييف. تجمعها في قِنانٍ شفافة وتعلّقها عند المدخل. إذا مررت من تحتها وأحدثت واحدةٌ منها طنينًا، فاعلم أن شيئًا فيك لم يُصرّح باسمه بعد.
3) قاضي السكينة
لا يرفع صوته ولا يطرق بمطرقة. كل أحكامه تُقال على هيئة سكتة موسيقية. إذا طال الصمت بعد كلامك، برئت؛ وإذا امتلأ الصمت بتململ، تأجّل الحكم حتى تقول الحقيقة بلا زركشة. يعتقد بعض سكان العالم أنه تلميذ قديم لـ قصّاص الضباب، لكنه تجاوز المعلّم لأن البياض لا يقبل حيل السرد.
4) سادن الحنوّ (زائر متردد)
هو ليس من أبناء الليل الأبيض؛ يأتي من عوالم أخرى حين تُطلب منه ترنيمة اللّين. يقف على أطراف الساحة، يُنشد لحنًا بسيطًا يساعدك على البوح دون أن تنكسر. وجوده عابر، لكنه يترك في الهواء أثرًا يشبه الطمأنينة التي تأتيك بعد بكاءٍ لم يحدث.
مناخ الحكاية: رعب شفاف
الرعب في هذا العالم لا يسكن في الظلام… بل في غيابه. تخيّل أن تمشي بلا ظلّ: لا يمكن لكذبةٍ أن تتخفّى في الجنب المعتم من وجهك. كل التفافاتك تظهر خطوطًا متكسّرة فوق أرضٍ من زجاج حليبي. لذلك، أكثر القصص رعبًا هنا ليست عن الوحوش، بل عن لحظاتٍ رأى فيها أحدهم نفسه كما هو، ولم يطق النظر.
ومع ذلك، عالم الليل الأبيض ليس عقابًا دائمًا. هو تدريبٌ على الخفّة. من تعلّم أن يقول ما عنده صار يمشي وكأنه فقد وزنًا كان مُعلّقًا بين كتفيه. يقول أهل الساحة: “البياض لا يطلب طهارة الملائكة؛ إنما يطلب شجاعة الاعتراف.”
كيف تتصرّف عندما تصل؟
قل اسمك بصوتٍ مسموع عند أول عتبة تدخلها. الاسم هنا وعدٌ صغيرٌ بالوضوح.
تعامل مع الصمت كصديق. لا تُسارع إلى ملئه بثرثرة، فهو يلمع فقط عندما تكون كلماتك في مكانها.
أمسك خيطك الأحمر: إن رأيت خيطًا رقيقًا يلمع عند قدمك، فهذه إشارة من عالم الخيوط الحمراء بأن مصيرًا ينتظر كلمةً ناقصة منك.
لا تُجرّب القصص الزائفة: البياض يسلخ الزينة ويبقي الهيكل. القصص التي تُبنى على تلاعب تنهار هنا مثل بيوت الملح عند أول نفَس.
يوميات في ساحة السكينة
صباحًا، يتوافد القادمون إلى رواق الاعتراف. لا أحد يقف أمام أحد، ولا توجد أدوار ثابتة؛ من يسبق هو من يُفصح أولًا. في الزوايا، يجلس كتّابٌ من أهل المكان يلتقطون الكلمات التي تلتمع—لا لينشروها، بل ليعيدوها لأصحابها عند الحاجة، مثل مرايا صغيرة يمكن وضعها في الجيب.
عند الغروب—وهو غروب بلا سواد—يبدأ موسم الصمت القصير: ساعة يمشي فيها الجميع على رؤوس أصابعهم. في هذه الساعة وحدها يُسمح للغرباء بالدخول من غير أسئلة كثيرة. إذا اجتزت الساحة دون أن تُحدث خطواتك فرقعةً، فمرحبا بك. وإن تكسّرت الأرض تحتك بأصداءٍ متلاحقة، ستلتقي نذير البياض قبل أن تخطو ثانيةً.
ليلًا (ليلٌ أبيض، نعم)، تُضاء النوافير بومضات تتناغم مع الكمنجات الخافتة لعرّافي ترنيمة اللّين. ليس كل ليلة تُعزف فيها الترنيمة كاملة؛ أحيانًا مقطعان فقط، وأحيانًا مجرد نغمة متوقفة فوق شفاه الهواء—تكفي لتذيب قشرة العناد عن قلبٍ واحد.
أسئلة يطرحها هذا العالم
هل أنت مستعدّ أن ترى نيتك كما هي؟
ما الذي يبقى منك إذا سقطت الزينة؟
هل تستطيع أن تحبّ نفسك في ضوءٍ لا يكذب؟
وإذا استطعت… أي باب سيفتح بعدها من تلقاء نفسه؟
آثار العبور على الزائر
خفّة القرار: تتلاشى الحيرة لأنها كانت تُغذّى من الظلال.
ذاكرة مصفّاة: تنسى ما لا يعنيك وما لا يخدمك، لكنها ليست خسارة… هي صيانة.
حساسية للزيف: بعد الزيارة، ستشمّ الكلمة المتصنّعة كما يُشمّ الطلاء الطريّ.
قابلية للرحمة: الغرور له ظلّ طويل… وحين تفقد ظلك للحظات، تكتشف أنك تشبه غيرك أكثر مما تخيّلت.
تداخلات كونيّة وعلاقات عابرة
مع عالم الذكريات المسروقة: يزور سادن الحنوّ الليل الأبيض عندما تستعصي ذكرى على الرجوع إلا باعترافٍ صريح.
مع عالم الأبواب المفتوحة: الأبواب التي لا تردّ السلام في العوالم الأخرى تصبح هنا شفافة؛ ترى من خلالها نيتك قبل أن تمسك المقبض.
مع عالم الحكايات المكسورة: لا حاجة لجمع الشظايا؛ البياض يُعيد ترتيبها تلقائيًا إذا كانت رغبتك في الحقيقة لا في الحكاية.
كيف تُروى قصص الرعب هنا؟
ليس صراخًا ولا مطاردة… بل لحظة وجيزة جدًا تشعر فيها أن الهواء توقّف، كأن العالم كلّه يحبس أنفاسه ليسمع جملة واحدة. أنت تعرفها مسبقًا، تعرف أنك تؤجّلها منذ زمن. تقولها، فيتدفق الهواء من جديد، ويعود الليل الأبيض أقلّ وهجًا وأكثر دفئًا. الرعب ينتهي دائمًا بطمأنينة في هذا العالم، لكن بشرط: أن تدفع ثمنها بسطرٍ صادق.
خلاصة التجربة
عالم الليل الأبيض مرآة لا تُعلّق على الجدار، بل تُعلّق في القلب. من دخله خرج بنسخةٍ أخفّ من نفسه، ولو قليلاً. قد تخسر ساعةً من تاريخك، لكنك تربح عشرات الساعات المقبلة لأنك لن تحتاج أن تتذكّر الأكاذيب التي حِكْتها لتنجو. ستكتشف أن النجاة هنا لا تُشترى… بل تُقال.